هناك شعب طالت معاناته في السودان، يعيش على جبل وعر وسط دارفور، يعيشون حياة بدائية لكنهم أحرار نسبيًا، لديهم بنادق لحماية أنفسهم و أشجار البرتقال الخاصة بهم لإعالتهم. يبدو أنهم قد تم نسيانهم في حرب السودان اليوم، لم يعودوا يتعرضون للقصف كما كان يحدث منذ سنوات، علي أمل أن يزدهروا.

أما خارج جبل مرة، فإن الوضع مأساوي بالفعل في السودان. أكملت الحرب الدموية بين فصيلين مسلحين – الجيش السوداني و قوات الدعم السريع شهرها الخامس فيما اضطر أكثر من خمسة ملايين سوداني إلى الفرار من منازلهم. ثمانون بالمئة من مستشفيات البلاد خارج الخدمة. بينما يواجه أكثر من 20 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي الحاد. و قد تعرضت عاصمة البلاد و أكبر مدنها للنهب و القصف و الدمار.
السودان كان بلدا فقيرًا بالفعل و يعاني، متأثرًا بعقود من الحرب، حتى قبل بدء هذا الصراع الحالي في 15 أبريل 2023.
هناك مأزق دموي منذ فترة، مع سيطرة القوات المسلحة السودانية على شمال و شرق البلاد، بينما حافظت قوات الدعم السريع على سيطرة هشة و فوضوية في كثير من الأحيان على معظم أنحاء الخرطوم و معظم غرب البلاد في دارفور وكردفان حيث يتمركز معظم مقاتلي قوات الدعم السريع.
يحظى كلا الجانبين بمصادر دعم أجنبية، و كلاهما لديه النية لمواصلة القتال على الرغم من الحديث عن المفاوضات حيث لم يقترب أي منهما من الهزيمة بعد.
لكن يبدو أن الخطوات الأخيرة التي اتخذها قائد القوات المسلحة السودانية عبد الفتاح البرهان تظهر طريقة ممكنة للمضي قدمًا لتحقيق النصر للقوات المسلحة السودانية.
لقد توقع بعض المراقبين (و كنت أحدهم) إنتصار القوات المسلحة السودانية أو أن تكون اليد العليا للقوات المسلحة السودانية واضحة منذ أشهر و هذا لم يحدث.
فيما لا يزال لدى كلا الجانبين خيارات، لكن الطريق الأحدث الذي سلكته القوات المسلحة السودانية للمضي قدمًا يبدو أكثر ترجيحًا و أفضل، في مثل هذا السيناريو فإننا لا نتحدث عن إنتصار الجانب الأفضل أو الأجدر حيث ارتكبت الفصائل المسلحة الشريكة و المتنافسة منذ فترة طويلة في بؤس السودان الطويل جرائم حرب و انتهاكات ليس فقط في الأشهر القليلة الماضية و لكن على مدى عقود، الحديث عن "انتصار" أي شخص في السودان يمثل مشكلة تتمثل في إن حروب السودان العديدة لم تنتهي قط بانتصار صريح.
إن رحيل البرهان من قاعدة القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية المحاصرة في الخرطوم في أواخر آب/أغسطس، رغم أنه لم يكن حاسماً في حد ذاته، إلا أنه يمكن أن يحقق فوائد مهمة قد ترجح كفة الصراع بشكل حاسم لصالح الجيش.
لم يكتف قائد القوات المسلحة السودانية و رئيس الدولة بالإنابة باستخدام حريته المكتشفة حديثًا لتأكيد نفسه بين مقاتليه و مؤيديه داخل السودان فحسب، بل قام بزيارات إلى مصر و جنوب السودان و قطر و إريتريا و تركيا.
يسعى البرهان إلى تعزيز الدعم الدبلوماسي و العسكري و المالي أيضًا لنظام القوات المسلحة السودانية.
البرهان لم يرافقه في هذه الرحلات القائم بأعمال وزير الخارجية السوداني فحسب، بل كان يرافقه أيضًا رئيس المخابرات العسكرية و المدير العام لنظام الصناعات الدفاعية السودانية، الملازم ميرغني إدريس سليمان.
بينما تم تدمير الكثير من الصناعات السودانية و منشآت الصناعة العسكرية في الخرطوم، إلا أن القوات المسلحة السودانية لديها تاريخ طويل في صنع الأسلحة و الذخائر الخاصة بها.
خلاف قطر لا تملك أي من هذه الدول الكثير من المال لتجنيبه، لكنها تستطيع تقديم الدعم العسكري العيني، مسترشدة برؤية رؤساء المخابرات السودانية و المشتريات العسكرية. و من المهم بشكل خاص الحفاظ على التفوق الجوي للقوات المسلحة السودانية و الذي استخدمته لقصف قوات الدعم السريع بلا هوادة (في حين قتلت أيضًا العديد من المدنيين السودانيين في غارات جوية عشوائية).
من غير المحتمل على أي من هذه الدول تقديم دعم غير محدود للبرهان، و قد لا يحشد العديد منها الكثير من الحماس لجنرالات السودان، لكن ربما يتمكن البرهان من تأمين ما يكفي لإحداث فرق.
حرية الحركة تمنح البرهان الفرصة للقاء لاعبين غير ملتزمين من السودان يمكن أن يوفروا مقاتلين جدد للمجهود الحربي. في الحين ذاته يسعى الجيش إلى حشد مجندين جدد في المناطق التي يسيطر عليها (تقليديا يأتي العديد من المجندين السودانيين من المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع)، فيما يسعى أيضا إلى تشجيع المقاتلين تحت قيادة المتمردين السابقين في دارفور مني ميناوي و جنوب كردفان، الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال بقيادة القائد عبد العزيز الحلو للانضمام إلى القتال ضد قوات الدعم السريع. بينما تتواجد قوات ميناوي في دارفور فعلياً، في منطقة تهيمن عليها قوات الدعم السريع، لكنها حافظت حتى الآن على حياد هش، فيما تسعى فقط إلى حماية أراضيها و سكانها. بينما استغل الحلو الحرب لتوسيع أراضيه ببطء على حساب القوات المسلحة السودانية.
من جانبه خاضت الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال عقودًا من الحرب ضد القوات المسلحة السودانية دفاعًا عن أراضيها ضد أنظمة مختلفة في الخرطوم.
يعتبر كل من مناوي و الحلو من المحاربين القدامى في المشهد السياسي العسكري السوداني و ليس لديهم أي أوهام بشأن التاريخ الدموي للقوات المسلحة السودانية و جنرالاتها ضد سكان الأطراف (الهامش). قد أصر الحلو بشكل خاص على حاجة السودان إلى أن يكون لديه جيش علماني موحد و مهني، يختلف تمامًا عما كانت عليه القوات المسلحة السودانية منذ عقود.
ذكرت بعض التقارير الإخبارية أن البرهان التقى بالحلو في جنوب السودان و إريتريا (قيل إن مناوي كان في إريتريا لحضور اللقاء أيضًا).
قد تم نفي لقاء الحلو بالبرهان في أسمرة رسميًا لاحقًا من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال. لكن محاولة اللقاء أمر منطقي بالنسبة للقوات المسلحة السودانية.
إن إقناع إحدى هاتين القوتين أو كليهما بالالتزام بمحاربة قوات الدعم السريع بشكل فعال سيكون أمرًا مهمًا لأنه يمكنهما تحدي الجنجويد التابع لحميدتي على أرضهم في الغرب. غالبًا ما يبدو أن سيطرة قوات الدعم السريع على أراضيها تخضع لحكم أكثر هشاشه "إذا كان بإمكان المرء حتى استخدام هذه الكلمة" من سيطرة القوات المسلحة السودانية. لقد كانت قوات الدعم السريع مقاتلة فعالة إلى حد ما، لكنها في أغلب الأحيان تعمل كعوامل فوضى أكثر من كونها حكامًا.
مناوي هو بالفعل حاكم إقليم دارفور، و هو اللقب الذي يعود بالتأكيد بالنفع عليه و على قواته، على الرغم من أنه يبدو غير مهم على الإطلاق بالنسبة لمعاناة شعب دارفور في السنوات الأخيرة، يريد هو و الحلو تحقيق أقصى قدر من المكاسب التي يمكن أن يحصلوا عليها مع تجنب الوقوع في فخ القتال و الموت من أجل الجيش، ثم ينقلب عليهم بمجرد تحقيق "نصر" دموي.
ماذا يمكن أن يقدم نظام القوات المسلحة السودانية للماكر عبد العزيز الحلو؟
كانت مقترحات السلام مطروحة على الطاولة مع رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك (الذي أطاح به البرهان قبل عامين) لكنها كانت مجرد كلمات على الورق.
تقليديا كانت علاقات الخرطوم مع النوبة في الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال متوترة الى حد كبير بسبب الحاجة إلى استرضاء القبائل العربية في كردفان التي كانت حليفة للجيش و منافسة للنوبة، لكن اليوم العديد من هذه القبائل، مثل أجزاء من القبائل المهمة و المسيرية، مع أبناء عمومتهم من عرب دارفور في قوات الدعم السريع. و هذا يمكن أن يمنح نظام القوات المسلحة السودانية حرية المناورة التي لم تكن متاحة له من قبل. بالإضافة إلى الضمانات بشأن الوضع الراهن بعد الحرب، يمكن للبرهان أن يتنازل عن ولاية جنوب كردفان للحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال (وهو انعكاس لما حدث في عام 2011 عندما دعمت الخرطوم مجرم الحرب في دارفور أحمد هارون كحاكم في انتخابات مزورة ضد الحلو). هناك أيضًا مناجم ذهب في كردفان كانت جزءًا من الإمبراطورية الاقتصادية لقوات الدعم السريع.
من المثير للاهتمام كانت هناك حملة دعائية في صيف 2023 من قبل حسابات إعلامية موالية للقوات المسلحة السودانية للقول إن "المسيرية والحوازمة" قررا التخلي عن صفوف قوات الدعم السريع و لكن لا يبدو أن هذا قد حدث بالفعل، على الأقل ليس إلى الحد الذي تمناه أنصار الجيش أن يكون صحيحا.
يبقى أن نرى ما إذا كانت أي من هذه المبادرات التي أطلقها البرهان ستؤتي ثمارها الحقيقية أم لا. لقد نسج أنصار القوات المسلحة السودانية سيناريوهات أكثر وردية من قبل. لكن الجمع بين الأسلحة المتزايدة من مصادر أجنبية، و فرض ضرائب جديدة على الجيش من المناطق التي يسيطر عليها، و حتى احتمال قيام مقاتلين مخضرمين مثل مناوي و مقاتلي الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال بإثارة الفوضى في الغرب الذي تهيمن عليه قوات الدعم السريع، يمنح القوات المسلحة السودانية مسارًا منطقيًا للمضي قدمًا إلى الهيمنة الواضح إن لم يكن النصر الكامل قد تبدو هذه نتيجة محتملة و ليست مؤكدة في الوقت الحالي.
بينما لا تزال قوات الدعم السريع تتمتع بموارد كبيرة و داعمين أجانب، قد أظهرت قوة و قدرة على الحركة في ساحة المعركة، فمن الواضح أنها تعاني من مشاكل قيادية. نادرًا ما يُرى حميدتي و شقيقه (الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات مؤخرًا) ، إما حميدتي بسبب الإصابة أو المرض أو عن عمد. و لا يبدو أنهم يقودون من الأمام كما فعل إدريس ديبي ذات يوم، و لا يملكون القدرة أو الانفتاح الدبلوماسي للتآمر في العواصم الأجنبية كما يفعل البرهان الآن. و بعيداً عن جمهورهم الأساسي الصغير نسبياً المتمثل في بعض القبائل العربية الرئيسية في دارفور، فإنهم بحاجة إلى عمل حقيقي على أمل توسيع أو الحفاظ على قواتهم المنقسمة معاً.
يبدو أن هذا الأمر مفقود على نحو متزايد يمكن لهذا النوع من القيادة الخفية التي يمارسها الأخوان دقلو أن ينجح لفترة من الوقت، حيث يكون بمثابة نوع من تكتيك البقاء في اللحظة الأخيرة، لكنه ليس وسيلة للفوز.